سوريا ما بعد الأسد- تحولات واشنطن، الجولاني والمعارضة نحو فصل جديد

المؤلف: محمود سلطان09.29.2025
سوريا ما بعد الأسد- تحولات واشنطن، الجولاني والمعارضة نحو فصل جديد

عشية السقوط المدوي لنظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر، وبينما كان الرئيس المنتخب دونالد ترامب يعاود افتتاح كاتدرائية نوتردام شامخة في باريس، أطلق تصريحًا لافتًا على منصة Truth Social، مفاده أن "سوريا غارقة في براثن الفوضى، لكنها ليست حليفًا لنا، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل فيها. هذه ليست معركتنا، فلتمضِ الأمور على حالها، لا تتدخلوا!".

من غير الوارد اعتبار هذه التصريحات موقفًا نهائيًا لإدارة ترامب تجاه الأزمة السورية، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل. فمن غير المنطقي أن تتخلى واشنطن عن دورها القيادي، بغض النظر عمن يقطن البيت الأبيض، وتتجاهل الأحداث المتسارعة في سوريا، في حين تحتفظ بنحو 900 جندي على تماس مباشر مع جماعات المعارضة المسلحة. إن استيلاء هذه الجماعات على السلطة سيؤدي حتمًا إلى إعادة تشكيل التحالفات التي استمرت لعقود في منطقة بالغة الهشاشة أمنيًا وسياسيًا.

لطالما برعت واشنطن في ممارسة التدخلات الناعمة وغير المباشرة، فهي دولة مؤسسات تتحمل مسؤولية "شرطي العالم"، للحفاظ على النظام الدولي والإرث الذي خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية.

إن قرار واشنطن بعدم التدخل "الصريح" قد يعزى، على الأرجح، إلى حسابات واقعية تعتمد على الأوزان النسبية للقوى المتحالفة مع النظام السوري، والتي شهدت اختلالات جوهرية نتيجة للحرب الأوكرانية الروسية، والعدوان الإسرائيلي على لبنان، والاستنزاف المستمر على جبهة إيران وإسرائيل.

هذه الاختلالات كانت تعزز، بشكل شبه مؤكد، سيناريو انهيار الأسد وقياداته العسكرية والأمنية على يد السوريين أنفسهم، دون أي دعم إقليمي أو دولي.

لذا، كانت أنظار صناع القرار الأميركي تتجه نحو اللاعب الجديد "أبو محمد الجولاني"، الذي توقع الأميركيون أن يتسلم مفتاح العاصمة دمشق بسهولة ويسر، وكأنه في نزهة لاصطياد الأرانب.

ففي حين صنفت وزارة الخارجية الأميركية الجولاني في مايو 2013 على أنه "إرهابي عالمي"، ثم أعلنت بعد أربع سنوات عن مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه، نراه يظهر علنًا، منذ 28 نوفمبر الماضي، ليس في حلب المحررة فحسب، بل يجري معه منصتان إعلاميتان أميركيتان مرموقتان، وهما سي إن إن ونيويورك تايمز، حوارات جريئة، ويُقدَّم بوصفه "رجل دولة" وليس "رجل عصابات"، كما كانت صورته النمطية سابقًا.

صحيح أن الإعلام الأميركي يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية، إلا أن التعامل مع الجولاني يبدو استثنائيًا. فهو لا يزال مدرجًا على قائمة "الإرهاب" الأميركية بكل ما يترتب على ذلك من تبعات قانونية، ومع ذلك، فقد تُرك له الباب مفتوحًا جزئيًا للإعلان عن صورته الجديدة المنفتحة على العالم.

يبدو أن الارتياح الأميركي للجولاني كان سابقًا لعملية إسقاط الأسد الأخيرة. ففي مطلع فبراير 2021، أجرى الصحفي الأميركي مارتن سميث مقابلة مع الجولاني، صرح فيها قائلاً: "إن هيئة تحرير الشام لا تشكل أي تهديد للولايات المتحدة الأميركية، وعلى الإدارة الأميركية رفعها من قائمتها للإرهاب"، وأضاف: "كنا ننتقد بعض السياسات الغربية في المنطقة، أما أن نشن هجمات ضد الدول الغربية، فلا نريد ذلك".

الرؤية التي قد يتبناها المختصون في دراسة الحركات الإسلامية المعارضة، هي أن الجولاني، في نسخته الجديدة، يتماشى مع تحول منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، بالتزامن مع تفكيك التصورات النمطية الجاهزة بشأن علاقة الإسلام بالسلطة. وقد أصبح من المألوف أن نقرأ إشارات إلى تصحيح هذه الرؤى المتحيزة، وتزايد قناعات، وإن كانت مترددة، بأن الإسلام ليس ضد العلمانية، ولكنه ضد الاستبداد، وهي الأفكار التي جسدها الجولاني ببراعة في حواراته مع وسائل الإعلام الأميركية.

ويبدو أن هناك نوايا جادة داخل التيار الرئيسي في المعارضة السورية لفتح صفحة جديدة مع الإدارة الأميركية، وقد تتضمن هذه الأجندة أبعادًا إنسانية تسعى إلى تحسين صورتها كمشروع أخلاقي في نظر الأميركيين والعالم. وربما ينبع ذلك، أيضًا، من إدراكهم، بعد سنوات من التجربة والخطأ، أن الوجود الأميركي في المنطقة لا غنى عنه، سواء في حالة الحرب أو السلم.

لقد لفت انتباه الحضور موقف المعارض السوري المؤثر في واشنطن، معاذ مصطفى، عندما قاطع مؤتمرًا صحفيًا لقراءة منشور ترامب، وبدا عليه التأثر الشديد، وقال إن إعلان ترامب أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى بعيدة عن القتال هو أفضل نتيجة يمكن للسوريين المتحالفين ضد الأسد أن يأملوا فيها.

وتعهد مصطفى للصحفيين يوم السبت، عشية سقوط بشار، بأن تحمي المعارضة المعتقلين الأميركيين في السجون السورية، ومن بينهم أوستن تايس، الصحفي الأميركي المفقود منذ أكثر من عقد من الزمن، والذي يشتبه في أنه محتجز لدى الأسد.

وفي السياق ذاته، لا يمكن القبول إطلاقًا بـ "لامبالاة ترامب" تجاه سوريا ووصفها بأنها "ليست معركته"، وهي الدولة المتاخمة لإسرائيل، والتي ظلت، حتى قبل سقوط الأسد، النافذة الأوسع لإيران لتحقيق طموحاتها وأهدافها الإقليمية.

وقد أدلى الجولاني، في هذا الصدد، بتصريح سياسي متزن وعقلاني، وبصفته رجل دولة مسؤول، عندما اشتكت إسرائيل، قبل سقوط بشار بيوم واحد، من هجوم شنه من وصفتهم بـ "المتمردين المسلحين" على موقع قوة مراقبين تابعة للأمم المتحدة بالقرب من قرية الخضر على الحدود بين إسرائيل وسوريا في هضبة الجولان. فبعد فترة وجيزة من الهجوم المزعوم، أصدرت غرف العمليات المشتركة للمعارضة بيانًا أكدت فيه التزامها بحماية المنظمات الدولية في سوريا.

هناك قناعة إقليمية ودولية بأن سوريا الجديدة "ما بعد الأسد" ستكون، بطبيعة الحال، دولة منشغلة بشؤونها الداخلية، وأن استثماراتها لن تتركز في إنتاج خطاب ديماغوجي معادٍ للعالم، وإنما في بناء نظام سياسي يتجنب الوقوع في أخطاء الفوضى السابقة الناتجة عن الانخراط في التنظيمات المتطرفة، أو الحماقات التي ارتكبها نظام الأسد والتي دفع السوريون ثمنها من دماء أبنائها (نصف مليون قتيل)، ودولة مدمرة ومقسمة تعاني مؤسساتها من الوهن والتدهور.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة